قال الإمام الرازی فی المباحث المشرقیة و شرحه لعیون الحكمة: إنّ لی فی خروج الشی ء من القوّة إلی الفعل علی التدریج تشكیكاً مع أنّه اتفقت آراء الحكماء علیه؛ فإنّ الشی ء إذا تغیّر فذلك التغیر إمّا أن یكون لحصول شی ء فیه أو لزوال شی ء عنه [1]، فإنّه إن لم یحدث فیه شی ء ممّا كان معدوماً و لم یزل عنه شی ء ممّا كان موجوداً وجب أن یكون حاله فی ذلك الآن كحاله قبل ذلك، فلم یوجد فیه تغیر و قد فرض ذلك هذا خلف، فإذن الشی ء إذا تغیر فلابد هناك من حدوث شی ء فیه أو زوال شی ء عنه، فلنفرض أنّه حدث فیه شی ء. فذلك الشی ء قد كان معدوماً ثمّ وجد و كلّ ما كان.

كذلك فلوجوده ابتداء و ذلك الابتداء غیرمنقسم و إلاّلكان أحد جزئیه هو الابتداء لا هو. فذلك الّذی حدث إمّا أن یكون فی ابتداء وجوده موجوداً أو لایكون، فإن لم یكن فهو بعد فی عدم لا فی ابتداء وجوده [2]، و إن حصل له وجود فلا یخلو إمّا أن یكون قد بقی منه شی ء بالقوّة أو لم یبق. فإن لم یبق فالشی ء قد حصل بتمامه فی أوّل حدوثه فهو حاصل دفعة لایسیراً یسیراً، و إن بقی منه شی ء بالقوّة فذلك الشی ء الّذی بقی إمّا أن یكون عین الّذی وجد و هو محال، لاستحالة أن یكون شی ء واحد موجوداً و معدوماً دفعة واحدة [3]، و إمّا أن یكون غیره [4]، فحینئذ الّذی حصل أولاً فقد حصل بتمامه، و الّذی لم یحصل فهو بتمامه معدوم، و لیس هناك شی ء واحد له حصول علی التدریج بل هناك أمور متتالیة، فالحاصل أنّ الشی ء الأحدی الذات [5]یمتنع أن یكون له حصول إلاّدفعة بل الشی ء الّذی له أجزاء كثیرة أمكن أن یقال إنّ حصوله علی التدریج علی معنی أنّ كلّ واحد من تلك الأفراد إنما یحصل فی حین بعد حین، و أمّا علی التحقیق فكلّ ما حدث فقد حدث بتمامه دفعة و ما لم یحدث فهو بتمامه معدوم، فهذا ما عندی فی هذا الموضع. هذا كلامه.

و أقول: إنّ بهمنیار ذكر هذه الشبهة ناقلا إیّاها عمن سبقه من الأقدمین و أبطلها بأنها إنما تنفی وجود الحركة بمعنی القطع و هی غیرموجودة فی الأعیان و الموجود من الحركة إنما هو التوسط المذكور و هو لیس إلاّأمراً سیّالاً لایكون متقضّیاً [6]و لاحقاً، و جمهور المتأخرین سلكوا هذا المنهج زاعمین أنه منهج الحكمة إلاّمولانا و.

سیّدنا الأستاد دام ظله العالی [7]حیث أفاد إنّ النافین للحركة بمعنی القطع قائلون بأنّ التوسط المذكور یرسم فی الوهم أمراً حادثاً تدریجیّاً علی نعت الاتّصال [8]و إن اجتمعت هناك أجزاؤه الحادثة علی التدریج [9]، و إذا كان حصول الشی ء الواحد علی سبیل التدریج غیر معقول فلم یتصوّر ذلك، سواءٌ كان فی الأعیان أو فی الأوهام، و هذا القیاس المغالطی لو صح لكان حجة ناهضة هناك أیضاً إذ لا اختصاص له بأحد الوجودین أصلا و اللازم خلف؛ و قد اجتمعت الآراء علی بطلانها، كیف و قد برهن علی اتصال الجسم و عدم انفصاله إلی غیر المنقسمات الوضعیة كما سیجی ء فی مباحث الجوهر، و خروج الجسم من أین إلی أین آخر مشاهد محسوس، و ذلك الخروج أمر تدریجی منطبق علی المسافة المتصلة، فوجود كمیة متصلة غیر قارة منطبقة علی كمیة متصلة قارة و لو فی الخیال من الضروریات الّتی لایمكن إنكارها؛ فالحری قلع أساس الإشكال و تخریب بنائه بإفشاء وجه الغلط فیه، و ذلك غیر متعسّر علی من وفق له بل میسّر لمن خلق له، فإنّ وجود الشی ء بتمامه فی الآن غیر وجوده فی الزمان إذ قد یكون للشی ء وجود فی الزمان و لیس وجوده و لا وجود جزء منه فی الآن بل وجود نهایة منه، و نهایة الشی ء خارجة عنه لأنه عدمه و انقطاعه، و وحدة الشی ء لا یأبی ذلك أصلا، لأنّ الحركة و الزمان و ما یجری مجراهما من الاُمور الضعیفة الوجود الّتی وجود كل جزء منها یجامع عدم غیره؛ و التدریج فی الحدوث لاینافی وجود الشی ء الممتد الواحد بتمامه فی مجموع الزمان الّذی هو أیضاً متصل واحد شخصی فی نفسه بل إنما ینافی وجوده بتمامه أو وجود بعض منه فی الآن. ثمّ لایلزم أن یكون لكلّ حادث ابتداء آنی یوجد هو أو جزء منه فی ذلك الآن، و هذا الغلط إنما نشأ من اشتراك لفظ الابتداء بین معنیین متغایرین؛ فإنّ لفظ الابتداء قد یطلق علی طرف الشی ء و نهایته و قد یطلق علی الآن الّذی یوجد فیه الشی ء الدفعی الحدوث المستمر الذات أولا، و الحركة لیست مما یوجد دفعة ثمّ.

یستمر، فلیس لها آن أول الحدوث و لا لجزء منها لأنّ جزء الحركة أیضاً حركة بل لها طرف و نهایة یختص بآن هو منطبق علی طرفها.

و من تعاریف الحركة ما ذكره الشیخ فی النجاة و هو أنّ الحركة تبدّلُ حال قارة فی الجسم یسیراً یسیراً علی سبیل اتجاه نحو شی ء و الوصول به إلیه و هو بالقوة أو بالفعل [10].

فلنبین قیود هذا التعریف و احترازاته. فقوله «تبدّل حال قارة» احتراز عن انتقال من حال غیر قارة إلی حال غیر قارة اُخری كانتقال من متی إلی متی أو من فعل إلی فعل أو من انفعال إلی انفعال إذ تلك الاُمور أحوال غیر قارة [11]، و الانتقال منها لیس حركة كما أنّ التلبس بها لیس بسكون. و قوله «فی الجسم» احتراز عن تبدّل الأحوال القارّة للنفوس المجردة [12]من صفاتها و إدراكاتها، إذ ذلك لایكون حركة، لا عن تبدل الهیولی الاُولی فی صفاتها علی ما قیل، فإنّ للهیولی حركة فی استعداداتها و انفعالاتها. و قد یقال إن المتحرك فی الحركة الكمیة لیس إلاّالمادة [13]بل المراد من.

الجسم ما یعمه و مادته [14]. و قوله: «یسیراً یسیراً» یخرج تبدّلا لایكون كذلك فی الجسم و تبدّل الهیولی فی صورها الجوهریة، فإنّ ذلك عند الشیخ و جمهور الحكماء لایمكن أن یكون علی سبیل التدریج، و سینكشف لك الحق الّذی فیه. و قوله: «علی سبیل اتجاه نحو شی ء» احترز به عن تبدل الجسم فی ضوئه مثلا و الانتقال عنه یسیراً یسیراً إلی الظلمة، فإنه و إن كان فیه تبدّل فی حال قارة تدریجاً إلاّأنه لیس بحركة لعدم كونه علی سبیل التوجه نحو شی ء، و أراد بالسببیة المعبر عنها بالباء القریبة الذاتیة احترازاً عن تبدّل أحوال قارة تدریجاً لایكون الوصول إلی مایترتب علیه أولیاً أو ذاتیاً كما ستعلم فی مباحث العلة الغائیة من أنّ الغایة قد تكون ذاتیة و قد تكون عرضیة، و بذلك یخرج عن الحدّ الانتقال من جدة إلی جدة أو من اضافة إلی اضافة، إذ كل منهما و إن كان تدریجیاً إلاّأنّ شیئاً منهما لیس غایة ذاتیة أو أولیة بل التبدل فیهما مسبوق بتبدّل فی غیرهما، و إنما عمّم فی الغایة المذكورة لیشمل ما لها غایة بالفعل كمالاتدوم من الحركات المستقیمة، و ما لیس لها غایة بالفعل كما تدوم من الحركات الدوریة، إذ ما یحصل لها إنما هو وضع تدریجی صالح لأن یفصل إلی أوضاع لایكون شی ء منها بالفعل بل بالقوة القریبة من الفعل.

و من تعاریفها ما ذكره رهط من حكماء الاسلام وفاقاً للمتقدمین و هو أنّ الحركة زوال من حال أو سلوك من قوة إلی فعل. و فی الشفاء: إنّ ذلك غلط لأنّ نسبة الزوال و السلوك إلی الحركة لیست كنسبة الجنس أو ما یشبه الجنس بل كنسبة الألفاظ المترادفة إیاها؛ إذ هاتان اللفظتان و الحركة وضعت أولا لاستبدال الشی ء فی المكان، ثم نقلت إلی الأحوال.

و أقرب التعاریف هو أن یقال الحركة هی موافاة حدود بالقوة علی الاتصال، و السكون هو أن تنقطع هذه الموافاة و تلك الحدود تفترض بالموافاة و الحركة علی هذا النحو یتبعها وجود الحركة بمعنی القطع الّذی سنذكرها.

---